كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَقال لَهُ: «خُذْ هَذَا، فَتَصَدَّقْ بِهِ وَأَطْعِمْهُ عِيَالَك».
وَقِيلَ هَذَا صَخْرُ بْنُ سَلَمَةَ بْنُ صَخْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ الَّذِي أَعْطَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْمِجَنَّ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَقال: وَجْهِي أَحَقُّ بِالْكَلْمِ مِنْ وَجْهِك،
وَارْتُثَّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْقَتْلَى، وَبِهِ رَمَقٌ، وَقَدْ كُلِمَ كُلُومًا كَثِيرَةً، فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُومَهُ، وَاسْتَشْ في لَهُ فَبَرِئَ، وَفِيهِ نَزَلَتْ آيَةُ الظِّهَارِ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قوله تعالى: {وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ}: رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ دُلَيْجٍ ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَتْهُ كَذَلِكَ، فَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ حَرُمْت عَلَيْهِ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إلَى السَّمَاءِ فَقالتْ: إلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي إلَيْهِ.
ثُمَّ عَادَتْ فَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حَرُمْت عَلَيْهِ».
فَقالتْ: إلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي إلَيْهِ، وَعَائِشَةُ تَغْسِلُ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ، ثُمَّ تَحَوَّلَتْ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَذَهَبَتْ أَنْ تُعِيدَ، فَقال: يَا عَائِشَةُ، اُسْكُتِي، فَإِنَّهُ نَزَلَ الْوَحْيُ.
فَلَمَّا نَزَلَ القرآن قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِزَوْجِهَا: «أَعْتِقْ رَقَبَةً».
قال: لَا أَجِدُ.
قال: «صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ».
قال: إنْ لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ خِفْت أَنْ يَعْشُوَ بَصَرِي.
قال: «فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا».
قال: فَأَعِنِّي، فَأَعَانَهُ بِشَيْءٍ.
المسألة الْخَامِسَةُ:
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} حَقِيقَتُهُ تَشْبِيهُ ظَهْرٍ بِظَهْرٍ، وَالْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ مِنْهُ تَشْبِيهُ ظَهْرِ مُحَلَّلٍ بِظَهْرِ مُحَرَّمٍ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، أُصُولُهَا سَبْعَةٌ: الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: إذَا شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحديث أَنَّهُ قال: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.
الْفَرْعُ الثَّانِي: إذَا شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ أُمِّهِ كَانَ ظِهَارًا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قولهِ: إنْ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِمْتَاعِ لَا يَحِلُّ لَهُ، وَفِيهِ رَفْعُ التَّشْبِيهِ، وَإِيَّاهُ قَصَدَ الْمُظَاهِرُ، وَقَدْ قال الشَّافِعِيُّ فِي قولهِ: إنَّهُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا إلَّا فِي الظَّهْرِ وَحْدَهُ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا مُحَرَّمٌ، فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِهِ ظِهَارًا كَالظَّهْرِ، وَلِأَنَّ الْمُظَاهِرَ إنَّمَا يَقْصِدُ تَشْبِيهَ الْمُحَلَّلِ بِالْمُحَرَّمِ؛ فَلَزِمَ عَلَى الْمَعْنَى.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ إذَا شَبَّهَ عُضْوًا مِنْ امْرَأَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ: قال الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قوليْهِ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَافَقَنَا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ؛ فَصَحَّ إضَافَةُ الظِّهَارِ إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْفَرْعُ الرَّابِعُ إذَا قال: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي، أَوْ مِثْلُ أُمِّي، فَإِنْ نَوَى ظِهَارًا كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَانَ ظِهَارًا.
وَقال الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ.
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ أَطْلَقَ تَشْبِيهَ امْرَأَتِهِ بِأُمِّهِ، فَكَانَ ظِهَارًا؛ أَصْلُهُ إذَا ذَكَرَ الظَّهْرَ، وَهَذَا قَوِيٌّ؛ إذْ مَعْنَى اللَّفْظِ فِيهِ مَوْجُودٌ، وَاللَّفْظُ بِمَعْنَاهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ حُكْمُ الظَّهْرِ لِلَفْظِهِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ لِمَعْنَاهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ.
الْفَرْعُ الْخَامِسُ إذَا قال: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ ظِهَارًا؛ وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ قولهُ: أَنْتِ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالطَّلَاقِ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ، وَيَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالظِّهَارِ، فَلَمَّا صَرَّحَ بِهِ كَانَ تَفْسِيرًا لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَضَى بِهِ فِيهِ.
الْفَرْعُ السَّادِسُ إنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَإِنْ ذَكَرَ الظَّهْرَ كَانَ ظِهَارًا حَمْلًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الظَّهْرَ فَاخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قال: يَكُونُ ظِهَارًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قال: يَكُونُ طَلَاقًا.
وَقال أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ شَيْئًا؛ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ مُحَلَّلًا مِنْ الْمَرْأَةِ بِمُحَرَّمٍ، فَكَانَ مُقَيَّدًا بِحُكْمِهِ كَالظَّهْرِ.
وَالْأَسْمَاءُ بِمَعَانِيهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمْ بِأَلْفَاظِهَا، وَهَذَا نَقْضٌ لِلْأَصْلِ مِنْهُمْ.
الْفَرْعُ السَّابِعُ إذَا قال: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي كَانَ مُظَاهِرًا.
وَقال الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ، وَهَذِهِ أَشْكَلُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ مُؤَبَّدٍ كَالْأُمِّ.
المسألة السَّادِسَةُ:
قولهُ: {مِنْكُمْ}.
يَعْنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي خُرُوجَ الذِّمِّيِّ مِنْ الْخِطَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ.
قُلْنَا: هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالِاشْتِقَاقِ.
وَالْمَعْنَى فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ فَاسِدَةٌ مُسْتَحِقَّةُ الْفَسْخِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ طَلَاقٍ وَلَا ظِهَارٍ، وَذَلِكَ كَقولهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
وَبِهِ قال أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقال الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ عُظْمَى.
وَقَدْ مَدَدْنَا إطْنَابَ الْقول فِيهَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ.
وَلُبَابُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ وَإِذَا خُوطِبُوا فَإِنَّ أَنْكِحَتَهُمْ فَاسِدَةٌ لِإِخْلَالِهِمْ بِشُرُوطِهَا مِنْ وَلِيٍّ وَأَهْلٍ وَصَدَاقٍ وَوَصْفِ صَدَاقٍ، فَقَدْ يَعْقِدُونَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَيَعْقِدُونَ بِغَيْرِ مَالٍ كَخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَيَعْقِدُونَ فِي الْعِدَّةِ وَيَعْقِدُونَ نِكَاحَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِذَا خَلَتْ الْأَنْكِحَةُ عَنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهِيَ فَاسِدَةٌ، وَلَا ظِهَارَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِحَالٍ.
المسألة السَّابِعَةُ:
وَهَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ يَقْتَضِي صِحَّةَ ظِهَارِ الْعَبْدِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَأَحْكَامُ النِّكَاحِ فِي حَقِّهِ ثَابِتَةٌ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصِّيَامِ.
المسألة الثَّامِنَةُ:
قال مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ تَظَاهُرٌ، إنَّمَا قال اللَّهُ تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَلَمْ يَقُلْ: وَاَللَّاتِي يُظَاهِرْنَ مِنْكُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، وَإِنَّمَا الظِّهَارُ عَلَى الرِّجَالِ.
قال الْقَاضِي: هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَرَبِيعَةَ، وَأَبِي الزِّنَادِ؛ وَهُوَ صَحِيحٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْحَلَّ وَالْعَقْدَ وَالتَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ فِي النِّكَاحِ بِيَدِ الرِّجَالِ، لَيْسَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَهَذَا إجْمَاعٌ.
المسألة التَّاسِعَةُ:
يَلْزَمُ الظِّهَارُ فِي كُلِّ أَمَةٍ يَصِحُّ وَطْؤُهَا.
وَقال أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَسِيرَةٌ جِدًّا عَلَيْنَا؛ لِأَنَّ مَالِكًا يَقول: إذَا قال لِأَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَمْ يَلْزَمْ، فَكَيْفَ يُبْطَلُ صَرِيحُ التَّحْرِيمِ، وَيُصَحَّحُ كِنَايَتُهُ، وَلَكِنْ تَدْخُلُ الْأَمَةُ فِي عُمُومِ: {مِنْ نِسَائِهِمْ}؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مِنْ مُحَلَّلَاتِكُمْ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْبُضْعِ دُونَ رَفْعِ الْعَقْدِ فَيَصِحُّ فِي الْأَمَةِ، أَصْلُهُ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ.
المسألة الْعَاشِرَةُ:
مَنْ بِهِ لَمَمٌ، وَانْتَظَمَتْ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الْكَلِمُ إذَا ظَاهَرَ لَزِمَ ظِهَارُهُ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحديث أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ وَكَانَ زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ فَدَاخَلَهُ بَعْضُ لَمَمِهِ، فَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ.
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
مَنْ غَضِبَ فَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ طَلَّقَ لَمْ يُسْقِطْ غَضَبُهُ حُكْمَهُ.
وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحديث قال يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ قالتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَقال: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.
ثُمَّ خَرَجَ إلَى نَادِي قَوْمِهِ.
فَقولهَا: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ دَلِيلٌ عَلَى مُنَازَعَةٍ أَحْرَجَتْهُ، فَظَاهَرَ مِنْهَا.
وَالْغَضَبُ لَغْوٌ لَا يَرْفَعُ حُكْمًا، وَلَا يُغَيِّرُ شَرْعًا.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:
وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ فِي حَالِ سُكْرِهِ إذَا عَقَلَ قولهُ، وَنَظَمَ كَلَامَهُ.
المسألة الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:
فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ فِي الظِّهَارِ بِالْفِرَاقِ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِالتَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ، حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْكَفَّارَةِ.
وَهَذَا نَسْخٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فِي زَمَانَيْنِ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ عَقْلًا، وَاقِعٌ شَرْعًا.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النَّسْخِ.
المسألة الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
الظِّهَارُ يُحَرِّمُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قوليْهِ؛ لِأَنَّ قولهُ: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي) يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ اسْتِمْتَاعٍ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ الْوَطْءُ بِالتَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ الِاسْتِمْتَاعِ.
المسألة الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:
قال الشَّافِعِيُّ: إذَا ظَاهَرَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَرْطِ الزَّوَاجِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، وَعِنْدَنَا يَكُونُ ظِهَارًا، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا كَذَلِكَ لَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ إذَا زُوِّجَهَا لِأَنَّهَا مِنْ نِسَائِهِ حِينَ شَرَطَ نِكَاحَهَا.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.
المسألة السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:
إذَا ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَقال الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ؛ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ إنَّمَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا الْمُعَوِّلُ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْفَرْجِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لِوَجْهٍ، فَكَانَتْ وَاحِدَةً.
وَإِنْ عَلَّقَهُ بِعَدَدٍ، أَصْلُهُ الْإِيلَاءُ، وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْإِنْصَافِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُوجَبَ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ.
المسألة السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقول وَزُورًا} فَسَمَّاهُ مُنْكَرًا مِنْ الْقول وَزُورًا، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالتَّحْرِيمِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ فِي حَالِ الْحَيْضِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ إذَا وَقَعَ.
المسألة الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:
قولهُ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا}: وَهُوَ حَرْفٌ مُشْكِلٌ؛ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحديثا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ.
وَمَحْصُولُ الْأَقْوَالِ سَبْعَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ؛ وَهُوَ مَشْهُورُ قول الْعِرَاقِيِّينَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ.
الثَّالِثُ: الْعَزْمُ عَلَيْهِمَا؛ وَهُوَ قول مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ.
الْخَامِسُ: قال الشَّافِعِيُّ: هُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَاقِ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ.
السَّابِعُ: هُوَ تَكْرِيرُ الظِّهَارِ بِلَفْظِهِ، وَيُسْنَدُ إلَى بُكَيْر بْنِ الْأَشَجِّ.
فَأَمَّا الْقول بِأَنَّهُ الْعَوْدُ إلَى لَفْظِ الظِّهَارِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَلَا يَصِحُّ عَنْ بُكَيْر، وَإِنَّمَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَهَالَةِ دَاوُد وَأَشْيَاعِهِ.